الحضارة الرقمية تغيير يفرض نفسه ثقافياً وإجتماعياً.

منذ البدء، ميّز الله الإنسان عن باقي المخلوقات بسمات معيّنة، مكّنته من التقدم والتطور. من أبرز هذه السمات، القدرة على التواصل وتشكيل علاقات اجتماعيّة وثقافية، مما ساهم بشكل كبير بتشكل أولى الحضارات البشرية منذ آلاف السنين. ومن حينها شهد الإنسان ظهور وأفول العديد من الحضارات، حتى وصلنا إلى يومنا هذا. إلا أن الحاجز المكاني قد حال في السابق دون تشكل حضارة انسانية واحدة جامعة في كافة ارجاء المعمورة.

وكما هو معلوم، إن الحضارة هي نظام إجتماعي يُساعد الإنسان على زيادة إنتاجه الثقافي. ولتكوينها هناك أربع عناصر أساسيّة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون. وبما أن #التطور_التكنولوجي أثّر بعمق على التطوّر الصناعي والهيكل الإقتصادي والمشهد الدولي وعلى الحياة الإجتماعية، سيما مع الانتشار الشامل والاندماج بين المجالات، وبما أن #التكنولوجيا الرقمية خلقت وستخلق نماذج جديدة للأعمال، كثر الحديث عن تشكل حضارة جديدة، وللمرة الأولى جامعة لكافة البشر، وهي #الحضارة_الرقمية.

إذاً ومع تنامي تأثير #التطور_التكنولوجي على حياة الأفراد والمجتمعات بشكلٍ لم يسبق له مثيل، فعالم #الانترنت، ووسائل الاتصالات والفضاء الالكتروني أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من كيان الانسان. لدرجة دفعت العديد من المفكرين للتخوف من تغير مفهوم الانسان ككائن مستقل إلى كائن معلومات متصل بالعالم أجمع. فثورة التطور قد سهلت القدرة على التواصل الفوري وبوسائل مختلفة بين الناس، والوصول إلى أشكال لا تعد ولا تحصى من المعلومات  دون أي تعقيد. هذا بالإضافة إلى التقدم الملحوظ في مجال #الذكاء_الاصطناعي، حيث باتت تجربة كل انسان مرتبطة  بقاعدة بيانات ضخمة، توفر معلومات موجهة معدة حصرياً لكل شخص، وهو أمر أساسي لاتخاذ مجموعة كبيرة من القرارات. وهكذا فإن مبادئ السلوك البشري ووجهات نظر الأفراد للعالم قد بدأت تتغير مع تغير الظروف الإنسانية، حتى بات السؤال المركزي: "ماذا يعني أن تكون إنساناً في عالم شديد الاتصال؟"

حاول عالم الاجتماع والمعرفة والفيلسوف الفرنسي "دان سبيربر" الإجابة عن تأثير التغير الثقافي والإجتماعي الرقمي الحاصل في كتابه "Explaining Culture: A Naturalistic Approach" باقتراح مفهوم جديد للثقافة معتبراً أن ثقافة المجتمع ليست مساحة يسكنها الناس، بل هي شبكة ذات خطوط عريضة تسمح باستكشاف كيفية انشاء سلوكيات الانسان لأنماط طويلة ومستدامة. أما الفيلسوف "برنارد ستيغلر" المتوفي عام 2020 أي سنة تأجج #الحضارة_الرقمية، فقد كان أكثر تشككاً حولها. إذ اعتبر أن #الثقافة_الرقمية  الحالية، التي تغذيها الشركات الكبرى، تؤدي الى تدهور وتعطل الحياة الاجتماعية، كما حذر بأن المرحلة الحالية تنطوي على فقدان المعرفة والتقليل من أهمية القدرات الفكرية والعلمية عند الأشخاص.

بالاعتماد على مقاربة "ستيغلر" قامت الاستاذة المحاضرة في دراسات التواصل في جامعة "يورك" "جاناييل لونغلوا" بشرح العلاقة الوطيدة بين الذات المتجسدة في #الشبكات_الرقمية والعقلانية العلمية التقنية التي تحكم تلك الشبكات. وأكدت أنه في ظل تحول تجربة كل إنسان، فإنه من المهم أن نلاحظ بشكل نقدي كيف تتم عملية إعادة بناء الذات من خلال المساحات المتوفرة عبر #الإنترنت. ليبقى السؤال الذي لن تجيب عنه سوى الأيام عن كيفية فهم الأفراد والمجتمعات لفكرة الوجود في ظل المتغيرات الحاصلة.

إذاً يتطلب منا #الواقع_الرقمي التعرف على التحولات الأساسية للتجربة البشرية والتمييز بين الواقع والافتراضية، وبين الانسان والطبيعة والآلة، ومعرفة نتيجة التحول من ندرة #المعلومات إلى وفرتها على حياة الانسان.

يبقى أن نذكر أنه لطالما كان من الصعب تقبل التغيير، فمهما بلغت حسناته عبر التاريخ، إلا أنّه  حمل ولو القليل من السيئات، ولطالما واجهه الافراد والمجتمعات بتحفظ، بل لطالما عمدت فئات من الناس على محاربته. فكيف إذا كان التغيير الحاصل مع #الحضارة_الرقمية على مستوى عالمي لم يشهد الانسان له بمثيل. ويبقى علينا التيقن من أن عجلة التاريخ ستستمر، والتحول إلى #الحضارة_الرقمية قد بات أمراً واقعاً إذا لم نقل أنه قد حصل بالفعل، وعلى كل شخص واجب التنوّر والسعي إلى الإستفادة من إيجابيات #التطور_التكنولوجي الحاصل في عصر هذه الحضارة، مما سيحمينا ويحمي مجتمعاتنا بنسبة كبيرة من مساوئ #العالم_الرقمي الجديد اللامحدود.